الاستشراق المحلي- نظرة النخبة العربية باستعلاء للريف والمهمشين

المؤلف: د. خليل العناني08.16.2025
الاستشراق المحلي- نظرة النخبة العربية باستعلاء للريف والمهمشين

يمتهن بعض المنتسبين إلى النخبة الثقافية والفكرية العربية نوعًا خاصًا من الاستشراق، يمكن تسميته بـ "الاستشراق الداخلي" أو "الاستشراق المحلي". هذا النمط من الاستشراق يتبناه طائفة من المثقفين والباحثين العرب تجاه مجتمعاتهم وبلدانهم، خصوصًا تجاه المناطق الريفية أو الهوامش الجغرافية والتنموية. ينتمي بعض هؤلاء إلى ما يمكن وصفه بـ "النخبة الحضرية"، وهي الشريحة التي ترعرعت ونشأت في المدن والعواصم العربية الكبرى كالقاهرة، دمشق، بغداد، عمّان، تونس، والدار البيضاء، وغيرها، وحظيت بقدر وافر من التعليم العالي سواء في الداخل أو الخارج، ثم عادوا ليدرسوا الريف والفئات المهمشة في مجتمعاتهم بمنظور فوقي وسطحي، وهو لا يبتعد كثيرًا عن الاستشراق الغربي المعهود.

الاستشراق المحلي قد ينبع أحيانًا من أشخاص ولدوا وترعرعوا في القرى والأرياف والبوادي، وعاشوا تفاصيل الحياة الريفية والبدوية بكل ما فيها من أسرار وخفايا، واختبروا تجاربها بحلوها ومرّها، لكنهم نزحوا إلى المدينة لأسباب تعليمية واقتصادية واجتماعية مختلفة، ليتحولوا إلى "مستشرقين" عصريين "متمدينين"، يمارسون نفس التعالي والاستعلاء والفوقية الطبقية التي تمارسها "نخبة" المدينة على سكان الريف.

ينغمس هؤلاء المستشرقون المحليون في حياكة وترديد قصص وسرديات عن سكان الأرياف و"الهوامش" والمناطق الأقل نموًا، مستمدين مصادرهم الرئيسة من الأفلام والمسلسلات الكلاسيكية التي روّجت على مدى عقود صورًا نمطية ساذجة عن هذه المناطق، كما هو الحال في صعيد مصر، سيناء، شمال الدلتا، وبدوها. هذه السرديات لا تخلو من السطحية والاختزال المخلّ بتعقيدات المجتمعات المحلية، سواء كانت ريفية، بدوية، أو مهمشة، وتسهم في ترسيخ العلاقة المتوترة والمنفصلة بين المدينة والحضر والريف، وكأنهما "عالمين" منفصلين تمامًا، ذوي طبيعة جوهرية ثابتة لا تتغير.

وبدلًا من أن يتحلى هؤلاء النخبويون بالمسؤولية الأخلاقية والعلمية تجاه مجتمعاتهم، من خلال التصدي لموجات الاستشراق الأجنبي المستمرة، فإنهم ينخرطون في ترديد "الكليشيهات" والأحكام النمطية ذاتها التي تعزز أطروحات المستشرقين الأجانب.

شاركت في العديد من المؤتمرات والندوات خلال العقدين الماضيين، وواجهت للأسف بعض هؤلاء المستشرقين المحليين الذين يقدمون أنفسهم للعالم الخارجي بصفتهم "خبراء" في المناطق العربية المهمشة، وذلك من خلال دراسات وأطروحات سوسيولوجية وأنثروبولوجية وسياسية تمزج الذاتي بالموضوعي، وتقدم أحيانًا صورة متخيلة عن الريف والمجتمعات المحلية وهي لا توجد إلا في أذهان أصحابها. أتذكر في أحد هذه المؤتمرات، التي عقدت في إحدى الجامعات البريطانية منذ سنوات، أن التقيت بـ "باحثة" مصرية تدعي أنها أنثروبولوجية متخصصة في دراسة الريف المصري، وبحكم نشأتي وترعرعي في هذا الريف، ومعرفتي العميقة بأسراره وخفاياه، وجدت ما تقوله هذه "الباحثة" مجرد تفاهات وتخيلات لا تستحق النقاش العلمي، مستمدة من السينما المصرية، ومن "الحكايات" الشائعة عن الريف وطباعه وعاداته وتقاليده.

فشعرت بصدمة ودهشة لما أسمعه، والأدهى من ذلك أنني عندما تحدثت معها بعد المؤتمر، لمست لديها تعاليًا طبقيًا وغطرسة ثقافية عززت قناعتي بأنها لم تعش يومًا واحدًا في الريف المصري، على الرغم من ادعائها معرفته ودراسته.

أما المصيبة الكبرى، فهي أن هذا الاستشراق المحلي قد يصدر أحيانًا من أفراد نشأوا وترعرعوا في القرى والنجوع والبوادي، وخبروا الحياة الريفية والبدوية بكل تفاصيلها، وعاشوا تجاربها بكل ما فيها من حلاوة ومرارة، ولكنهم هاجروا إلى المدينة لأسباب تعليمية واجتماعية واقتصادية مختلفة، ليتحولوا إلى "مستشرقين" جدد "متمدينين"، يمارسون نفس الاستعلاء والفوقية الطبقية التي تمارسها "نخبة" المدينة على الريف وسكانه. وبدلاً من أن يقوم هؤلاء بتفكيك الصور النمطية الخاطئة عن الحياة الاجتماعية في الريف، تراهم يكرسونها ويعززونها. تمامًا كما تفعل بعض النخب "الفرنكفونية" في بعض دول المغرب العربي، الذين خرجوا من الهوامش وتعلموا في باريس، ثم عادوا ليلعبوا الدور نفسه الذي كان يلعبه مستشرقو فرنسا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكن بلغة محلية.

يجسد الاستشراق المحلي العلاقة المعقدة بين المركز والأطراف، ويسهم في ترسيخ حالة "الغيرية" من خلال خلق "عوالم" متخيلة تبدوا مختلفة تمامًا عن بعضها البعض، ولا يمكن دراستها إلا بالتضاد والتناقض. وإذا كان علم الأنثروبولوجيا قد ساهم بشكل كبير في تفكيك هذه العلاقة من خلال الممارسة الميدانية والمعايشة للباحث، والتي يتخلص فيها من أحكامه المسبقة وأطره النظرية قبل أن يبدأ في العمل على موضوعه البحثي، إلا أن الانقسام الهوياتي بين الريف والمدينة، أو الحضر والبدو، لا يزال يمثل عنصرًا ضاغطًا على الكثير من النماذج التفسيرية للعلاقة بين المركز والأطراف. ومن المفارقات العجيبة أن الأنثروبولوجيا، بصفتها حقلًا معرفيًا، قد نشأت جزئيًا للتخلص من الأحكام التعميمية في دراسة الظواهر الاجتماعية، وذلك من خلال التركيز على دراسات حالة متعمقة وغنية بالتفاصيل والتعقيدات، بحيث تجعلها حالات فريدة وخاصة يصعب تعميمها.

لا يقتصر الاستشراق المحلي أو "المديني" على منطقتنا العربية فحسب، بل هو موجود أيضًا في مجتمعات أخرى مشابهة في التطور التاريخي والاجتماعي، كما هو الحال في الهند وبعض الدول الأفريقية، وكذلك في أمريكا اللاتينية. وهناك دراسات عديدة حول العلاقات بين المدن والقبائل والعائلات وغيرها، ولا يخلو بعضها من الاستشراق المحلي والاختزال المخلّ لطبيعة العلاقة بين المركز والأطراف. صحيح أن هناك دراسات محترمة وموثوقة في هذا المجال، إلا أنها تظل الأقل حضورًا وتأثيرًا مقارنة بغيرها.

ويبقى الأمل معقودًا على تخلص الجيل الشاب من الباحثين العرب من عقدة الاستعلاء على أوطانهم وثقافتهم، وتجنب الوقوع في فخ الاستشراق المحلي، خاصة في مرحلة ما بعد "الربيع العربي" التي كشفت عن حجم التنوع والتعقيد الاجتماعي والسياسي والثقافي في مجتمعاتنا العربية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة